في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا وتتسع فيه مساحة المنصات الرقمية، يبرز سؤال جوهري: هل ما زال القارئ يمنح الكتاب وقتاً كافياً ليتأمله ويفككه ويعيد تأويله؟ أم أن الثقافة المعاصرة دفعتنا نحو القراءة السريعة والملخصات المختصرة، على حساب القراءة المتأنية التي تُشبه فنجان قهوة محمود درويش: لا يُشرب على عجل؟
حيث ارتبط منذ القدم فعل القراءة بالاكتشاف، فهي ليست مجرد مرور على الكلمات، بل عملية عقلية وجمالية تتضمن التأمل والتفكيك وإعادة التفسير. وكما عبّر كافكا: «القراءة هي الفأس التي تكسر البحر المتجمد في دواخلنا»، فهي فعل يحرر الذات قبل أن يفسر العالم.

بينما أكد كبار الأدباء مثل نابوكوف وفرجينيا وولف أكدوا أن القارئ ليس مجرد متلقٍ سلبي، بل شريك إبداعي للمؤلف. فإعادة قراءة النص أكثر من مرة تمنحه حياة جديدة، والقراءة المتأنية تتيح مساحة للتأويل الشخصي الحر، بعيداً عن وصاية النقاد أو أحكام الآخرين.
فيما صنف هيرمان هيسه القراء إلى فئات، أهمها «القارئ المشاغب» الذي يقرأ بحرية ويقاوم القوالب الجاهزة، في مقابل «القارئ الساذج» الذي يستهلك النصوص كما يستهلك وجبة سريعة، بلا نقاش أو جدل. وهنا تكمن أزمة الحاضر: انتشار ثقافة التلخيص والاستهلاك السريع للكتب، بما يجرّد القراءة من قيمتها العميقة.

كما تعزز المنصات الرقمية اليوم ثقافة الاختصار؛ نصوص قصيرة بعدد كلمات محدودة، كتب مختزلة وشعارات تسويقية، حتى دور النشر انجرفت وراء موجة السوق وأصبحت تروّج للمؤلفات السريعة بحثاً عن ربح مضمون. لكن هذا التبسيط الزائف يُضعف القارئ ويجعل الذائقة عرضة للابتذال.
والقراءة الحقيقية ليست وجبة خفيفة، بل تجربة عميقة تحتاج إلى وقت وصبر وتأمل. فالمعنى لا يكمن فقط في مضمون الكتاب، بل في رحلة القراءة نفسها، بوصفها فعلاً ذهنياً يعيد تشكيل وعينا وعلاقتنا بالعالم. وكما قال ألبرتو مانغويل: «أنا قارئ قبل أن أكون كاتباً»، فإن قيمة الإنسان لا تنفصل عن كونه كائناً قارئاً بالدرجة الأولى.
