في زمن يُفترض أن يكون العقل فيه هو الحاكم، والعلم هو المرجع، نجد أنفسنا في عالم عربي يفتح أبواب الإعلام على مصراعيها أمام العرّافين والعرّافات، ويمنحهم شرعية الظهور، ويستقبلهم وكأنهم أصحاب نبوءات لا يُردّ لها قول.
نهاية كل عام تتحوّل الشاشات إلى مسارح للتنجيم، والناس إلى جمهور ينتظر “التوقعات”، وكأن مصيرهم معلّق بكلمات من لا يحملون أي مؤهل، ولا يستندون إلى أي علم، بل إلى خرافات مغلّفة بعبارات رنانة.
ما الذي حدث؟
كيف انحدرنا من صحافة كانت تُسمّى “السلطة الرابعة” إلى صحافة تُسوّق للوهم؟
كيف أصبح الإعلام، الذي يُفترض أن يُنير العقول، يروّج لمن لا يملكون من أدوات المعرفة شيئًا؟
لا ثقافة، لا تعليم، لا منهج، فقط جرأة على الكذب، واحتراف في بيع الأوهام.
والأدهى من ذلك، أن الناس تصدّقهم.
تؤجل قراراتها، تغيّر مسار حياتها، وتبني مستقبلها بناءً على ما يقوله “فلان العرّاف” عن برج أو طالع.
هل هذا هو مستوى الوعي الذي وصلنا إليه؟
هل أصبحنا ننتظر من يقرأ لنا الفنجان بدل أن نقرأ الواقع؟
هل أصبحنا نبحث عن من يطمئننا بالخرافة بدل أن نواجه الحقيقة؟
إنها مهزلة.
مهزلة إعلامية، ومهزلة اجتماعية، ومهزلة فكرية.
نحن لا نهاجم غير المتعلمين، فقلة التعليم ليست عيبًا.
لكن العيب أن يُمنح من لا يملك أدوات التفكير منصة للتأثير.
العيب أن يُستبدل الخبير بالمنجّم، والمفكر بالمشعوذ، والمعلومة بالتخمين.
إنها أزمة وعي قبل أن تكون أزمة إعلام.
أزمة مجتمع يبحث عن إجابات سهلة، ويهرب من مواجهة الواقع، ويستسلم للخرافة بدل أن يصنع مستقبله.
الصحافة مسؤولة. الإعلام مسؤول. ونحن كمجتمع، مسؤولون.
فلنرفع الصوت.
فلنطالب بوقف هذه المهزلة.
فلنُعيد الاعتبار للعقل، للعلم، وللمنطق.
لأن مستقبلنا لا يُقرأ في فنجان قهوة، ولا يُبنى على توقعات من لا يعرف الفرق بين الحقيقة والخيال.
مستقبلنا يُصنع في قاعات الفكر، ومختبرات البحث، ومؤسسات التعليم. لا في استوديوهات التنجيم.
بقلم د. حبيب باشا.. من العرّاف إلى العار: هل تحوّلت الصحافة إلى منصة للتنجيم؟
📎 رابط مختصر للمقال:
https://almanara.media/?p=22369
شارك هذه المقالة






