المنارة/ وفاء ميلود ساسي/ ليبيا
بينما كنتُ أتأمل البحر بدا لي أن بعض المُدن، رغم المسافات، تتحدث إلى بعضها بطريقتها الخاصة. فطرابلس، هذه المدينة التي لا تهدأ فيها الأمواج، بدت وكأنها تهمس لمدينة أخرى على الضفة الشرقية للخليج، مدينة لا تقل عشقاً للكلمة واحتفاءً بالذاكرة: الشارقة.
بعض المُدن لا تُختصر بخريطة، ولا تُروى بحكاية واحدة، لأنها في ذاتها رواية لا تنتهي. ومن هذه المدن تقف طرابلس في الوجدان العربي، مدينة بحرية تنبض بالحياة، ويظل فيها الحبر شاهداً على نبضها المتجدد.
وحين تلتقي روح طرابلس بروح الشارقة، مدينة الثقافة والعقل العربي المعاصر، يُولد حوار فريد: ذاكرة تحكي، وأخرى تنصت، ثم تُعيد رواية الحكاية من جديد. طرابلس لا تهمس، بل تروي. تحكي بلسان الأجيال، وتفيض بالحكايات كما يفيض الميناء كل صباح بنسيم البحر وصوت العائدين.
المدينة الواقعة على ضفاف المتوسط لا تُعرف بعمرانها العتيق ولا بأسواقها المسقوفة فقط، بل بالكلمة. فهي الأرض التي مشى عليها الشعراء، وسُكبت فيها القصائد الأولى، وتداخلت فيها الهويات الأندلسية والعثمانية والأفريقية والعربية.
ليست مدينة عتيقة فحسب، بل مدينة ولادة، صنعت كُتاباً ومُفكرين ومُبدعين، وقدّمت للمشهد الثقافي العربي رموزاً ظلّت، رغم الظروف، قناديل تُنير الطريق. من بينهم د. نجيب الحصادي المفكر والفيلسوف، ود. عبد المولى البغدادي الشاعر والأديب، وعلي فهمي خشيم المفكر والأديب، وعلي صدقي عبد القادر شاعر، وغيرهم الكثير ممن أغنوا الثقافة الليبية والعربية، وأثبتوا أن الكلمة تعلو على صوت البارود.
فالثقافة في طرابلس لم تكن ترفاً، بل وسيلة للبقاء والاشتباك مع الآخرين. لم تنفصل عن الناس، بل تجذّرت فيهم، تنبض بلغتهم وتظهر في أمثالهم الشعبية، وتُختصر أحياناً في فنجان قهوة بمقهى مُطل على البحر. فكل زاوية في المدينة حكاية تكتب نفسها.
طرابلس والشارقة: وجها الذاكرة والمُستقبل
ويحدث بين المدينتين حوار صامت، لا تحكمه الاختلافات ولا الجغرافيا، بل تحكمه اللغة والقيم التي تتقاطع: حب الكلمة، توق الهوية، والسعي للحفاظ على الجمال. الشارقة، بحواراتها الثقافية، لا تمحُو هوية المُدن الأخرى، بل تمنحها مساحة لتتكلم. ومن هنا تُصبح طرابلس راوية لا مُستمعة؛ تسرد ما مرّ بها لا لتشتكي، بل لتُعلّم، لتقول للعالم العربي: لقد عشنا، وقاومنا، وكتبنا، وما زلنا.
المُدن لا تموت حين يرويها الأدب
في ذاكرة الأديب لا تموت المُدن. قد تتغيّر الوجوه وتهدم الأسواق القديمة، لكن طرابلس – كما الشارقة – تعيش بالكلمة، وتتجدد مع كل نصّ يُولد من قلبها. نحن لا نكتب المُدن كما هي، بل كما أحسسناها. لذا نجد في كتابات الليبيين طرابلس بألف وجه: الأم، الميناء، القصيدة، المدينة التي تخفي أسرارها في العيون وتُظهر عنادها في الجدران.
وفي المُقابل، نجد الشارقة تفتح أبوابها لكل المُدن، تُؤمن أن لكل مدينة قصة ولكل قصة مكان، وهنا يبدأ الأدب في إعادة تشكيل المُدن لا كما يُراد لها أن تكون، بل كما نحتاج نحن أن نراها.
ختاماً
حين تُصبح المدن مرآة لبعضها، تعكس الذاكرة لا الصور، يتجدد الحُلم العربي بالثقافة والإنسان. طرابلس لا تروي لمجرد التذكر، بل لتبقى حية، والشارقة لا تُصغي لمجرد الإعجاب، بل لتُعيد تشكيل فضاء عربي يحترم التعدد ويُكرم الجذور. وفي هذا الحوار بين المدينتين، نكتشف أن المدينة ليست بنايات، بل ذاكرة، وليست فقط ذاكرة، بل مشروع ثقافي مستمر.
وحين تروي طرابلس للشارقة، فهي لا تُنهي الحكاية، بل تفتتح فصلاً جديداً في السرد العربي، حيث تُصغي مدينة، وتكتب أخرى، ويُولد بينهما الأدب كما يُولد الضوء من تماس الحلم بالواقع.
المقالات المنشورة على موقع المنارة تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا يتبناها الموقع أو القائمين عليه






